فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن للعلماء فيما ادعاه اليهود قولين:
الأول وهو قول السدى: أن هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط، وذلك أنه تعالى قال في التوراة: من جاءكم يزعم أنه نبي فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما السلام.
فإنهما إذا أتيا فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان تأكله النار.
قال: وكانت هذه العادة باقية إلى مبعث المسيح عليه السلام، فلما بعث الله المسيح ارتفعت وزالت.
القول الثاني: إن ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أنه لو كان ذلك حقًا لكانت معجزات كل الأنبياء هذا القربان، ومعلوم أنه ما كان الأمر كذلك، فإن معجزات موسى عليه السلام عند فرعون كانت أشياء سوى هذا القربان.
وثانيها: أن نزول هذه النار وأكلها للقربان معجزة فكانت هي وسائر المعجزات على السواء، فلم يكن في تعيين هذه المعجزة وتخصيصها فائدة، بل لما ظهرت المعجزة القاهرة على يد محمد عليه الصلاة والسلام وجب القطع بنبوته سواء ظهرت هذه المعجزة أو لم تظهر.
وثالثها: أنه إما أن يقال أنه جاء في التوراة أن مدعي النبوة وإن جاء بجميع المعجزات فلا تقبلوا قوله إلا أن يجيء بهذه المعجزة المعينة، أو يقال جاء في التوراة أن مدعي النبوة يطالب بالمعجزة سواء كانت المعجزة هي مجيء النار، أو شيء آخر، والأول باطل، لأن على هذا التقدير لم يكن الاتيان بسائر المعجزات دإلا على الصدق، وإذا جاز الطعن في سائر المعجزات جاز الطعن أيضا في هذه المعجزة المعينة.
وأما الثاني: فإنه يقتضي توقيت الصدق على ظهور مطلق المعجزة، لا على ظهور هذه المعجزة المعينة، فكان اعتبار هذه المعجزة عبثا ولغوا، فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الشبهة بالكلية، والله أعلم. اهـ.
وقال الفخر:
قال الواحدي رحمه الله: القربان البر الذي يتقرب به إلى الله، وأصله المصدر من قولك قرب قربانا، كالكفران والرجحان والخسران، ثم سمى به نفس المتقرب به، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لكعب بن عجرة: «يا كعب الصوم جُنَّةٌ والصلاة قربان» أي بها يتقرب إلى الله ويستشفع في الحاجة لديه.
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة فقال: {قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات وبالذى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صادقين}. اهـ.
وقال الفخر:
اعلم أنه تعالى بين بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد، بل على سبيل التعنت، وذلك لأن أسلاف هؤلاء اليهود طلبوا هذا المعجز من الأنبياء المتقدمين مثل زكريا وعيسى ويحيى عليهم السلام، وهم أظهروا هذا المعجز، ثم إن اليهود سعوا في قتل زكرياء ويحيى، ويزعمون أنهم قتلوا عيسى عليه السلام أيضا، وذلك يدل على أن أولئك القوم إنما طلبوا هذا المعجز من أولئك الأنبياء على سبيل التعنت، إذ لو لم يكن كذلك لما سعوا في قتلهم، ثم إن المتأخرين راضون بأفعال أولئك المتقدمين ومصوبون لهم في كل ما فعلوه، وهذا يقتضي كون هؤلاء في طلب هذا المعجز من محمد عليه الصلاة والسلام متعنتين، وإذا ثبت أن طلبهم لهذا المعجز وقع على سبيل التعنت لا على سبيل الاسترشاد، لم يجب في حكمة الله إسعافهم بذلك، لاسيما وقد تقدمت المعجزات الكثيرة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الجواب شاف عن هذه الشبهة. اهـ.
وقال الفخر:
المراد بقوله: {وبالذى قُلْتُمْ} هو ما طلبوه منه، وهو القربان الذي تأكله النار.
واعلم أنه تعالى لم يقل: قد جاءكم رسل من قبلي بالذي قلتم، بل قال: {قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات وبالذى قُلْتُمْ} والفائدة: أن القوم قالوا: إن الله تعالى وقف التصديق بالنبوة على ظهور القربان الذي تأكله النار، فلو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: إن الأنبياء المتقدمين أتوا بهذا القربان، لم يلزم من هذا القدر وجوب الاعتراف بنبوتهم، لاحتمال أن الإتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها، والشرط هو الذي يلزم عند عدمه عدم المشروط، لكن لا يلزم عند وجوده وجود المشروط، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القدر لما كان الإلزام واردا، أما لما قال: {قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات وبالذى قُلْتُمْ} كان الإلزام واردا، لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتوا بالموجب للتصديق، ولما أتوا بهذا القربان فقد أتوا بالشرط، وعند الإتيان بهما كان الإقرار بالنبوة واجبا، فثبت أنه لولا قوله: {جَاءكُمْ... بالبينات} لم يكن الإلزام واردا على القوم، والله أعلم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)}.
تقوَّلوا على الله سبحانه فيما تعللوا به من تَرْكِ الإيمان، فقالوا: لقد أُمِرْنَا ألا نصدِّق أحدًا إلا لو أتانا بقربان يتقرب به إلى السماء، وتنزل نار من السماء، فتأخذ القربان عيانًا ببصر، فقال تعالى قلْ لهم إن من تقدَّمني من الأنبياء عليهم السلام أَتَوْكم بما اقترحتم عليّ من القربان، ثم لم تؤمنوا، فلو أجبتكم إليه لن تؤمنوا بي أيضا؛ فإن مَنْ أقصته السوابق- فلو خاطَبَتْه الشمسُ بلسان فصيح، أو سجدت له الجبالُ رآها بلحظٍ صحيح- لم يَلِجْ العرفان في قلبه، وما ازداد إلا شكًا على شك. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ}.
هم يدّعون ذلك ويقولون: ربنا قال لنا هذا في التوراة؛ إياكم أن تؤمنوا برسول يأتيكم، حتى يأتيكم بمعجزة مُحسة، هذه المعجزة المُحسّة هي أن يقدم الرسول قربانًا فتنزل نار من السماء تأكله.
هذا كان صحيحًا، وكلنا نسمع قصة قابيل وهابيل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 27-28].
ونريد أن نقبل على القرآن ونتدبر: لماذا جاء هذا اللفظ: {فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ}؟ إن القبول من الله، وهو مسألة سرية عنده، فكيف نعرف نحن أن الله تقبل أو لم يتقبل؟ لابد أنه الله قد جعل للقبول علامة حسية. ونحن نعرف أن الإنسان قد يعمل عملًا فيقبله الله، ونجد إنسانًا آخر قد يعمل عملًا ولا يقبله الله والعياذ بالله، فمن الذي أعلمنا أن الله قد قبل عمل إنسان وقربأنه، ولم يقبل عمل الآخر وقربأنه؟.
وبما أن القبول سر من أسرار الله إذن فلن نعرف علامة القبول إلا إذا كانت شيئًا مُحسًا، بدليل قوله: {فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ}. وقال الذي لم يتقبل الله قربأنه: {لأَقْتُلَنَّكَ} كأن الذي قبل الله قربأنه قد عرف، والذي لم يتقبل الله قربأنه قد عرف أيضا، إذن فلابد أن هناك أمرًا حسيًا قد حدث.
وقلنا: إن الله كان يخاطب خلقه على قدر رشد عقولهم حسًا ومعنى؛ ولذلك كانت معجزاته سبحانه وتعالى للأنبياء السابقين لرسول الله هي من الأمور المُحسة. فالمعجزة التي آتاها الله لإبراهيم كانت نارا لا تحرق، وعصا سيدنا موسى تنقلب حية، وسيدنا عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله. والمعجزة الحسية لها ميزة أنها تقنع الحواس، ولكنها تنتهي بعد أن تقع لمرة واحدة. لكن المعجزة العقلية التي تناسب رشد الإنسانية، هي المعجزة الباقية، وحتى تظل معجزة باقية فلا يمكن أن تكون حسية.
إذن فعندما تأتي معجزة خالدة لرسول هو خاتم الرسل، والذي سوف تقوم القيامة على المنهج الذي جاء به، هذه المعجزة لابد أن تكون ذات أمد ممتدّ، والامتداد يناقض الحسيّة؛ لأن الحسّية تظل محصورة فيمن رآها، والذي لم يرها لا يقولها ولا يؤمن بها إلا إذا كان على ثقة عظيمة بمن أخبره بها. وابنا آدم، قابيل وهابيل قرّب كل منهما قربانا.
وقُربان مثلها في اللغة مثل غفران وعُدوان والقُربان هو شيء أو عمل يتقرب به العبد من الله.
وقبول هذا العمل من البر هو سرّ من أسرار الله. فما الذي أدرى هؤلاء أن قربان هابيل قد تقبّله الله ولم يتقبل الله قربان قابيل؟ لابد أن تكون المسألة حسيّة. ولابد أن قابيل وهابيل قد اختلفا، ولكن القرآن لم يقل لنا على ماذا اختلفا، إنها دعوى أن واحدًا منهما مُقرّب إلى الله أكثر، ولكن بأي شكل؟ لم يظهر القرآن لنا ذلك، ولو كانت المسألة مهمة لأظهرها الله لنا في القرآن الكريم، فلا تقل كان الخلاف على زواج أو غير ذلك. فالذي ظهر لنا من القرآن أن خلافًا قد وقع بينهما أو أنهما قد حكما السماء. ومبدأ تحكيم السماء لا يستطيع أحد أن ينقضه. وكان لكل واحد منهم شُبهة. وعندما قامت الشبهة التي لقابيل ضد الشبهة التي لهابيل، فلا إقناع من صاحب شبهة، ولذلك ذهبا إلى التحكيم.
ونحن في عصرنا الحديث عندما نختلف على شيء فإننا نقول: نجري قرعة. وذلك حتى لا يرضخ إنسان لهوى إنسان آخر، بل يرضخ الاثنان للقدر، فيكتب كل منهما ورقة ثم يتركان ثالثا يجذب إحدى الورقتين. أما هابيل وقابيل فيذكر القرآن الكريم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ}.
إذن فكل واحد منهما كانت له شبهة، ولا أحد منهما بقادر على إقناع الثاني؛ لذلك قال قابيل بعد أن قبل الله قربان هابيل: {لأَقْتُلَنَّكَ} فماذا قال هابيل؟. قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
إذن فالذي يتقبل الله منه القربان هو الذي سيُقْتل. والذي يملأه الغيظ هو من لم يتقبل الله قربأنه، وهو الذي سوف يَقْتُل. فماذا قال صاحب القربان المقبول: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28].
إذن فهذا أهل لأن يتقبل الله قربأنه، لأنه متيقظ الضمير بمنهج السماء، وهذه حيثية لتقبل القربان.
وحتى لا نظن أن الآخر قابيل كله شر لمجرد أن الشهوة سيطرت عليه، لكن الحق يظهر لنا أن فيه بعض الخير، ودليل ذلك قول الحق: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30].
وهذا القول يدل على أنه تردد، فلا يقال: طوّعت الماء، ولكن يقال طوّعت الحديد، فكأن الإيمان كان يعارض النفس، إلا أن النفس قد غلبت وطوّعت له قتل أخيه. وعندما قتل قابيل أخاه وهدأت شرّة الغضب وسُعار الانتقام، رأى أخاه مُلقى في العراء: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31].
وعلى هذا النسق قال اليهود: إن الله أوصانا ألا نؤمن برسول إلا بعد أن يأتي بمعجزة من المُحسّات.
لماذا قالوا ذلك؟. قالوا ذلك لأن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبرى وهي القرآن الكريم لم تكن من ناحية المحسّات وانتهى عهد الإعجاز بالمحسّات فقط، فرسولنا له معجزات حسية كثيرة، ونظرا لأن هذه ينتهي إعجازها بانقضائها فكان القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة وهو الذي يناسب الرسالة الخاتمة، فهم طلبوا أن تكون المعجزة بالمحسّات حتى يصنعوا لأنفسهم شبه عذر في أنهم لم يؤمنوا، فقالوا ما أورده القرآن: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا}.. إلخ.
وعلمنا الحق في هذه الآية أن القربان تأكله النار، ومن هذا نستنبط كيف تقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل، لكي نفهم أن القرأن لا يوجد به أمر مكرر. والحق سبحانه يرينا ردوده الإلهية المقنعة الممتعة: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ}.. إلخ الآية.
لقد جائكم رسل قبل رسول الله بالقربان وأكلته النار ومع ذلك كفرتم. فلو كان كلامكم أيها اليهود صحيحًا، لكنتم آمنتم بالرسل الذين جاءوكم بالقربان الذي أكلته النار. وهكذا يكشف لنا الحق أنهم يكذبون على أنفسهم ويكذبون على رسول الله، وأنها مجرد مماحكات ولجاج وتمادٍ في المنازعة والخصومة.
والحق سبحانه يأمر رسوله أن يسأل: {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}؟
هو سبحانه يريد أن يضع لنا قضية توضح أن عهد المعجزات الحسيّة وحدها قد انتهى، ورُشد الإنسانية وبلوغ العقل مرتبة الكمال قد بدأ؛ لذلك أتى سبحانه يآية عقلية لتظلّ مع المنهج إلى أن تقوم الساعة. ولو كانت الآية حسيّة لاقتصرت على المعاصر الذي شهدها وتركت من يأتي بعده بغير معجزة ولا برهان. أما مجيء المعجزة عقلية فيستطيع أي واحد مؤمن في عصرنا أن يقول: سيدنا محمد رسول الله وتلك معجزته. ولكن لو كانت المعجزة حسيّة وكانت قرباناً تأكله النار، فما الذي يصير إليه المؤمن ويستند إليه من بعد ذلك العصر؟
إن الحق يريد أن يعلمنا أن الذي يأتي بالآيات هو سبحانه، وسبحانه لا يأتي بالآيات على وفق أمزجة البشر، ولكنه يأتي بالآيات التي تثبت الدليل؛ لذلك فليس للبشر أن يقترحوا الآية. هو سبحانه الذي يأتي بالآية، وفيها الدليل. لماذا؟ لأن البعض قد قال للرسول: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 90-93].
لقد كانت كل هذه آيات حسيّة طلبوها، والله سبحانه وتعالى يرد على ذلك حين قال لرسوله: إن الذي منعه من إرسال مثل هذه الآيات هو تكذيب الأولين بها: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59].
فحتى هؤلاء الذين قالوا: لن نؤمن حتى تأتي بقربان تأكله النار قد جاءهم من قبل من يحمل معجزة القربان الذي تأكله النار، ومع ذلك كذبوا، إذن فالمسألة مماحكة ولجاج في الخصومة. ويُسلّي الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وتسلية الله لرسوله هنا تسلية بالنظير والمثل في الرسل. كأن الحق يوضح: إن كانوا قد كذبوك فلا تحزن؛ فقد كذبوا من قبلك رسلًا كثيرين، وأنت لست بِدعًا من الرسل.. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
أبدل {الذين قالوا إن الله عهد} من {الذين قالوا إن الله فقير} [آل عمران: 181] لذكر قولة أخرى شنيعة منهم، وهي كذبهم على الله في أنه عهد إليهم على ألسنة أنبيائهم أن لا يؤمنوا لرسول حتّى يأتيهم بقربان، أي حتّى يذبح قربانًا فتأكله نار تنزل من السماء، فتلك علامة القبول، وقد كان هذا حصل في زمن موسى عليه السلام حين ذُبح أوّل قربان على النحو الذي شَرعه الله لبني إسرائيل فخرجت نار من عند الرّب فأحرقتْه. كما في سفر اللاويين.